ماذا يفعل بنا الاغتراب

من كان يظن أن تلك الفتاة مُدللة أبويها أخت الرجال – التي هي أنا بكل تأكيد – ستختار الاغتراب أو قل سيختارها الاغتراب، تلك التي صرحت مرارًا أنها لن تتجاوز حدود محافظتها وإن استطاعت فلن تترك حدود مدينتها. علمت وأعلمت الجميع أنها لن تستطيع مع تلك الحياة صبرًا. لن تحيا أبدًا حياة المغتربات. تلك بلاد لا يُشد فيها الرحال.

بعد أن قاربت سنتي الثالثة على الانتهاء – انتهاء بشق الأنفس – لكنها في النهاية سنون وانقضت. أستطيع أن أرى النور في تجربتي تلك بدلًا من أن أظل ألعن حلكة سوادها. يكفي أن أقارن بين تلك الفتاة التي كُنتها وهذه التي تقص عليك حكايتها الآن لأعرف كم استفدت من رحلة السنوات الثلاث تلك.

تركت مدينتي “ملوي” التي تستقر جنوب محافظة المنيا لأكمل دراستي بمحافظة “بني سويف”. تركت مدينتي لأذهب لبلد يُخطئ أهلها في نطق اسم مدينتي ولم يطؤوا أرضها يوما وقد لا يفعلون. تخال أنك قوي وقادر على مواجهة الحياة طالما تلجأ إلى أهلك وتأوي إلى بيتك في آخر الليل. يُهيأ لك أنك رأيت من الدنيا الكثير وأن لا درس جديد قد يغيرك جذريًا. حتى تكتشف أنك تارك جميع أحبابك إلى بلد لا تعرفه – وإن كنت لم تهاجر – وبينكما وصل ما يزال لكنك ستكتشف أن كلمة غريب مكتوبة على وجهك يراها كل عابر.

ستبدأ تعاملًا جديدًا مع الحياة. لم أعد أعامل على أني بنت أو أخت لفلان لكن كبنت يبدو على وجهها الهدوء وربما الخوف.

اكتشفت في نفسي قوة لم أكن أعلم أنها بداخلي يومًا. خرجت من شرنقتي الحريرية وتعلمت الطيران. اكتسبت أشياء لم أعلم أن باستطاعتي اكتسابها. تعلمت لأول مرة أن أحوطني أن أعتني بي كما يفعل الأهل وأن أصادق الكتابة. قدرت نعمًا كانت بسيطة بالنسبة لي لكنها الآن ليست كذلك. قدرت نظرة أبي ووجه أمي وحُب إخوتي وطبطة صغارهن عليَّ ببسماتهم وضحك صديقاتي وتواصلت حتى مع جدران بيتنا تواصلًا صامتًا. قدرت ما مضى وظلت لدي القدرة أن أستمتع مع ما يتعاملون مع كونه عاديًا.

أدركت أن لا نعمة يطلق عليها وصف عادي، كل النعم مميزة.

تعلمت أن أحرص على نقودي وأن أدبر أموري وأن أحسب للظروف – كنت مبذرة بجدارة فيما مضى – أنا التي لم أتذكر يوما كم من النقود في محفظتي. أصبحت أتذكر كل مليم فيما صرفته، أصبحت لأول مرة في حياتي أعرف ما معنى الأولويات وأبحث عن أماكن المكتبات وأفاضل الأسعار.

أصبحت أصف لأهل البلد الأماكن التي يستطيعون أن يشتروا منها الكتب. أصبحت أكره الشكوى وأعلم أن الأمور ستنتهي بشكل جيد وإن لم تنته بشكل جيد فربما كانت نهايتها بداية لأمر ما.

أصبحت أدخر مدامعي ويسبق تصرفي بكائي. حافظت على رباطة جأشي ووثقت في قدرتي على حل الأمور. لم أتحول إلى رجل ولا أحب أن أوصف بأني أساوي مائة رجل. شعرت بكوني بنتًا تليق بي ممارسة الحياة بعود مشدود. قدرت ما غرسه فيّ أهلي أنهم أعطوني كل حب الأرض وحنانها، خبؤوني برموش أعينهم لكن حين حان وقت أن يشتد ظهري تنحوا ولم يكسروه. فشكرًا.