مع تذكرة عودة إلى العراق في يديه وحسرة في قلبه من الإحباط بسبب البيروقراطية الألمانية المتعنتة، تخلى غزوان عبد الحسن عبد الله عن أحلامه بحياة أفضل في أوروبا.
بعاطفة الحنين إلى الوطن، والحرص على العودة إلى زوجته وأطفاله الأربعة في البصرة، تخلى عبد الله عن صفة اللاجئ واستقل طائرة من مطار برلين تيغل الدولي متجهة إلى بغداد، لتعيده إلى الوطن في خمس ساعات فقط، هو و150 من اللاجئين الذين يشعرون بخيبة أمل بعد انهيار أحلامهم بالبقاء في أوروبا.
لقد أنفق غزوان آخر 325 دولارًا بحوزته للعودة إلى العراق؛ وهي جزء صغير من الأموال التي دفعها للمهربين في الصيف الماضي للوصول إلى ألمانيا مشيًا على الأقدام، أو عبر الحافلات والقوارب من تركيا واليونان والبلقان والنمسا.
ولكن الآن، بعد أن هرب أكثر من 1.1 مليون لاجئ من الأراضي المضطربة مثل سوريا والعراق وأفغانستان إلى ألمانيا خلال الأشهر الثلاثة عشر الماضية، يتجه عدد صغير لكنه متزايد إلى بلدانهم.
فما هو سبب رغبتهم في العودة؟
أسباب عودة اللاجئين إلى ديارهم لا تعد ولا تحصى، ولكنها تشمل اكتظاظ المراكز باللاجئين، والبيروقراطية المثيرة للسخط، والمواد الغذائية الألمانية غير المألوفة، وانعدام فرص العمل، والشعور بانتشار الاستياء من الألمان الذين يخشون من اجتياح المسلمين لبلادهم.
ويقول العديد من اللاجئين إنهم سعداء الآن باستبدال الحياة الباردة القاسية في واحدة من أغنى دول أوروبا، بالعيش وسط أعمال العنف وانعدام الأمن والفقر في الوطن، لقد أدركوا أنَّ المهربين قد خدعوهم وكذبوا عليهم بشأن المنازل الكبيرة، والوظائف ذات الأجور المجزية وحياة الترف التي سيجدونها في ألمانيا.
وقال عبد الله، البالغ من العمر 37 عامًا، والذي كان يعمل كسائق شاحنة في العراق: “لقد أردت أن أعيش في سلام مع عائلتي بعيدًا عن الحرب، لكن ما رأيته في أوروبا ليس ما كنت أحلم به، إنها ليست كما وصفها المهربون”.
ويكمل: “الطعام كان سيئًا للغاية ومثير للاشمئزاز لدرجة أن الحيوانات يجب ألا تتناوله، لقد جعلونا ننام في مبانٍ فارغة وباردة وعندما يصاب أحدنا بالمرض، يتجاهلونه تمامًا، يمكنك أن تشعر في كل مكان أن الألمان ينظرون لنا نظرة دونية وكأننا حفنة من المتشردين… أفتقد عائلتي، ولا أطيق الانتظار للعودة إلى الوطن”.
عبد الله، مثل العديد من اللاجئين؛ جاء إلى ألمانيا وحيدًا، وظنّ أنَّ أسرته قد تتبعه بعد ذلك، لكنَّ الحكومة الألمانية تخشى من أن عدد اللاجئين قد يرتفع إلى أربعة أضعاف في حال وصول أسرهم، ولذلك أوقفت مؤقتًا تنفيذ قواعد أعلنتها العام الماضي تسمح للاجئين بإرسال أفراد أسرهم.
والآن، قد يستغرق الأمر من سنتين إلى خمس إلى سنوات أو أكثر قبل أن يُسمح لأسر اللاجئين بالانتقال إلى ألمانيا؛ وهي فترة انتظار لا يُطاق، وقد كانت أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت المئات، وربما الآلاف، من اللاجئين يغادرون ألمانيا كل أسبوع، على الرغم من وصول ما يقرب من 3000 لاجئ كل يوم.
فيما أصدرت السفارة العراقية في برلين أكثر من 1500 وثيقة سفر للاجئين عراقيين أرادوا مغادرة ألمانيا في الأشهر الثلاثة الأخيرة.
معاناة ومهانة وقرارٌ بالفرار
“هناك الكثير من العراقيين العائدين إلى بلادهم، ولكن المزيد من السوريين يأتون أيضًا لشراء تذاكر الطيران للعودة إلى الوطن”، هكذا قال علاء هدروس (24 عامًا) الذي جاء إلى ألمانيا من العراق وهو طفل، ويعمل الآن في مكتب سفريات ريسين جولف بجوار مركز للاجئين في قلب برلين.
وأضاف هدروس: “إنهم يرون الكتابة العربية على نافذة مكتبي، ويأتون ليخبروني أنهم يريدون العودة إلى بلادهم، هناك الكثير من القصص المحزنة حقًا”.
ويرى هدروس حشود اللاجئين الذين نال منهم التعب ينامون على رصيف الشارع أمام مكتبه في الليل، والوافدون الجدد الذين يضطرون أحيانًا إلى الانتظار لتجهيز طلبات اللجوء الخاصة بهم، حتى يتمكنون من الذهاب إلى ملجأ يأوي اللاجئين.
وقال هدروس: “إنه أمر مزعج حقًا بالنسبة لي كلما أرى الأطفال الصغار في الخارج يتجمدون في البرد”، مضيفًا أنه كان في كثير من الأحيان يأوي هذه العائلات والأطفال الصغار الذين يرتجفون من البرد في شقته الصغيرة، كما أوضح أنه في أواخر العام الماضي لاحظ زيادة في عدد اللاجئين القادمين إليه للحصول على تذكرة للعودة إلى بلادهم.
وأضاف:
“إنهم يأتون إلى مكتبي كل يوم، لقد تخلوا عن حُلم العيش في ألمانيا، رُغم أن البعض جاء إلى هنا فقط منذ بضعة أسابيع، كانت لديهم فكرة خاطئة وتوقعات خاطئة عن ألمانيا؛ حيث أخبروهم الناس في العراق أنهم يمكن عيش حياة هانئة هنا”.
وهناك رجل سوري، اكتفى بذكر اسمه الأول، عابد، اشترى تذكرة ذهاب فقط إلى لبنان بعد أن أمضى أربعة أسابيع في ألمانيا، وقال إنَّ العيش وحيدًا في ألمانيا أصعب بكثير مما كان متوقعًا، وشعر بالاكتئاب عندما اكتشف أن زوجته وابنته لن يُسمح لهما بالانضمام إليه.
وقال عابد: “أفتقد عائلتي كثيرًا، فأنا أفضل المخاطرة بالموت معهم في سوريا عن العيش في ألمانيا من دونهم”.
ادفع لترحل
وأفاد مكتب الحكومة الألمانية للهجرة وشؤون اللاجئين، أن 37220 لاجئًا حصلوا على المساعدات المالية الحكومية من أجل العودة إلى بلدانهم في عام 2015، وكان معظمهم من دول في منطقة البلقان، وكانت لديهم فرصة ضئيلة لمنحهم حق اللجوء، وقد ذهب 724 فقط من حوالي 122 ألف لاجئ من العراق إلى وطنهم العام الماضي، بمساعدة الحكومة الألمانية.
وتشير وكالة الهجرة إلى أنها لا تملك نظرة شاملة حول وضع اللاجئين؛ لأنَّ الكثير من اللاجئين يدفعون تكاليف رحلات العودة إلى بلادهم.
وقال أردلان حسن، رئيس وكالة دانيا للسفر والسياحة في برلين:
“عدد اللاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم يتزايد كل أسبوع، وبمجرد اكتشافهم أنهم لا يستطيعون جلب عائلاتهم هنا، فإنهم يتخلون عن حُلم العيش في ألمانيا”.
وأضاف أردلان: “لقد ظنوا أنه سيتم الترحيب بهم بحرارة في ألمانيا، واعتقد البعض أنهم سيحصلون على الكثير من الأموال، وأن الدولة ستقدّم لهم منازل كبيرة للعيش فيها، ولكن بعد وصولهم يدركوا مدى انخفاض فرص كسب لقمة العيش في ألمانيا”.
وقال حسن إنّه يحاول إخبار العراقيين بالبقاء في بلادهم، وأن الحياة في ألمانيا ليست سهلة كما يعتقدون، وأضاف: “لكن لا أحد يصدقني، يجب أن يروا ذلك بأنفسهم لإدراك مدى صعوبة العيش هنا”.
العودة للديار
الزيادة في عدد اللاجئين العائدين إلى ديارهم يمكن أن توفر بعض الراحة غير المتوقعة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تعرضت لهجوم شرس بسبب سياسات الباب المفتوح التي تتبناها.
ولذلك، غيّرت ميركل بمهارة رسالتها للاجئين من الترحيب بهم في سبتمبر عام 2015، حينما قالت كلماتها الخالدة: “يمكننا أن نفعل ذلك”، إلى وجهة نظر متحفظة حول أزمة اللاجئين في فبراير من العام الحالي.
وقالت ميركل: “نتوقع عودتكم إلى سوريا بمجرد إحلال السلام هناك وهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، ونتوقع عودتكم إلى بيوتكم” في محاولة لطمأنة الألمان المنزعجين وإيصال رسالة للاجئين بأن ألمانيا حريصة على عودتهم لمنازلهم.
قد لا تكون العودة بعيدة المنال كما تبدو، لقد استقبلت ألمانيا ما يقرب من 350 ألف لاجئ من حروب البلقان في أوائل التسعينات، وبحلول عام 1998، بعد انتهاء الحروب، عاد حوالي 70٪ طوعًا أو كراهيةً، إلى صربيا والبوسنة والهرسك وكرواتيا وكوسوفو وألبانيا وسلوفينيا.
أحمد، البالغ من العمر 24 عامًا من مدينة أربيل، العراق، جاء إلى ألمانيا على أمل دراسة الهندسة، ولكن بعد ثمانية أشهر من الانتظار عبثًا للنظر في طلب اللجوء الذي تقدّم به، تخلى عن حُلمه وعاد إلى العراق في منتصف فبراير الماضي.
وقال أحمد قبل مغادرته: “جئنا إلى ألمانيا للعيش بحرية ولكننا لسنا أحرارًا هنا، لقد حصلنا على المزيد من الحرية في العراق أكثر من ألمانيا، لقد سئمت من معاملتهم لي مثل الحيوان، ومن العيش في غرفة كبيرة مع مئات اللاجئين الآخرين، وتناول طعام سيء والحاجة إلى الاستحمام بماء بارد، أنا لا أطيق الانتظار للعودة إلى بلدي”.